فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد أخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن عائشة قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص، وبعثت فيه بقلادة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ رقة شديدة وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها»، وقال العباس: إني كنت مسلمًا يا رسول الله، قال: «الله أعلم بإسلامك، فإن تكن كما تقول فالله يجزيك، فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب، وحليفك عتبة بن عمرو»، قال: ما ذاك عندي يا رسول الله، قال: «فأين المال الذي دفنت أنت وأمّ الفضل؟ فقلت لها: إن أصبت فهذا المال لبنيّ؟» فقال: والله يا رسول الله إن هذا لشيء ما علمه غيري وغيرها، فاحسب لي ما أصبتم مني عشرون أوقية من مال كان معي، قال: «لا أفعل»، ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، ونزلت: {قُل لّمَن في أَيْدِيكُم مّنَ الأسرى} الآية، فأعطاني مكان العشرين الأوقية في الإسلام، عشرين عبدًا كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله.
وأخرج ابن سعد، والحاكم وصححه، عن أبي موسى أن العلاء ابن الحضرمي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين ثمانين ألفًا، فما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أكثر منه، فنشره على حصير، وجاء الناس، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم، وما كان يومئذ عدد ولا وزن، فجاء العباس فقال: يا رسول الله إني أعطيت فدائي، وفداء عقيل يوم بدر، أعطني من هذا المال، فقال: «خذ»، فحثا في خميصته، ثم ذهب ينصرف فلم يستطع، فرفع رأسه وقال: يا رسول الله ارفع عليّ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب وهو يقول: أما أحد اللذين وعد الله فقد أنجزنا، وما ندري ما يصنع في الأخرى {قُل لّمَن في أَيْدِيكُم مّنَ الأسرى إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} فهذا خير مما أخذ مني ولا أدري ما يصنع في المغفرة.
والروايات في هذا الباب كثيرة.
وأخرج ابن سعد، وابن عساكر، عن ابن عباس، في الآية قال: نزلت في الأسارى يوم بدر، منهم العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث، وعقيل بن أبي طالب.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عنه، في قوله: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ} إن كان قولهم كذبًا {فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} فقد كفروا وقاتلوك {فَأَمْكَنَك} الله مِنْهُمْ. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيتين:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا}
هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُتِمَّتَانِ لِلْكَلَامِ فِي أَسْرَى بَدْرٍ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتَرْغِيبِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ بِبَيَانِ مَا فِيهِ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبِتَهْدِيدِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ عَاقِبَةَ بَقَائِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَخِيَانَتَهُ صلى الله عليه وسلم وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الْبِشَارَةَ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَالظَّفَرِ لَهُ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى} أَيْ: قُلْ لِلَّذِينَ فِي تَصَرُّفِ أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى- وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ مَنِ الْأُسَارَى- الَّذِينَ أَخَذْتُمْ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا إِنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ فِي قُلُوبِكُمْ إِيمَانًا كَامِنًا بِالْفِعْلِ أَوْ بِالِاسْتِعْدَادِ الَّذِي سَيَظْهَرُ فِي إِبَّانِهِ- أَوْ كَمَا يَدَّعِي بَعْضُكُمْ بِلِسَانِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي قُلُوبِكُمْ يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ أَيْ: يُعْطِكُمْ إِذْ تُسْلِمُونَ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِمَّا أَخَذَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْكُمْ مِنَ الْفِدَاءِ بِمَا تُشَارِكُونَهُمْ فِيهِ مِنَ الْغَنَائِمِ وَغَيْرِهَا مِنْ نِعَمِ الدِّينِ الَّتِي وَعَدَهُمُ اللهُ بِهَا، رَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْعَبَّاسَ وَأَصْحَابَهُ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: آمَنَّا بِمَا جِئْتَ بِهِ وَنَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ فَنَزَلَ إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا أَيْ: إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا يُخْلِفْ لَكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُصِيبَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ أَيْ: مَا كَانَ مِنَ الشِّرْكِ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ السَّيِّئَاتِ، فَكَانَ عَبَّاسٌ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تَنْزِلْ فِينَا وَأَنَّ لِي مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ شَيْءٍ، فَلَقَدْ أَعْطَانِي اللهُ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنِّي مِائَةَ ضِعْفٍ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ غَفَرَ لِيَ اللهُ، وَقَدْ أَخَذَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ: {وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أَيْ: غَفُورٌ لِمَنْ تَابَ مِنْ كُفْرِهِ وَمِنْ ذَنْبِهِ بِالْأَوْلَى رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ: الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ الَّتِي تَشْمَلُ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَأَمَّا الرَّحْمَةُ الْعَامَّةُ فَقَدْ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَهَذَا تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَدَعْوَةٌ إِلَيْهِ، وَعَدَمُ عَدِّهِمْ مُسْلِمِينَ بِمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ} بِمَا يُظْهِرُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ دَعْوَى إِبْطَالِ الْإِيمَانِ، أَوِ الرَّغْبَةِ عَنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدُ- وَهَذَا مِمَّا اعْتِيدَ مِنَ الْبَشَرِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ- فَلَا تَخَفْ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ خِيَانَتِهِمْ وَعَوْدَتِهِمْ إِلَى الْقِتَالِ، فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ بِاتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ وَالشُّرَكَاءِ لَهُ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْكُفْرِ بِنِعَمِهِ ثُمَّ بِرَسُولِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ خِيَانَتَهُمُ اللهَ تَعَالَى هِيَ مَا كَانَ مِنْ نَقْضِهِمْ لِمِيثَاقِهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى الْبَشَرِ بِمَا رَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الْعَقْلِ، وَمَا أَقَامَهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آيَةِ أَخْذِهِ تَعَالَى الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي آدَمَ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [7: 172] فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ الْإِمْكَانُ مِنَ الشَّيْءِ وَالتَّمْكِينُ مِنْهُ وَاحِدٌ، أَيْ فَمَكَّنَكَ أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ مِنْهُمْ، بِنَصْرِهِ إِيَّاكَ عَلَيْهِمْ بِبَدْرٍ عَلَى التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ بَيْنَ قُوَّتِكَ وَقُوَّتِهِمْ وَعَدَدِ أَصْحَابِكِ وَعَدَدِهِمْ، وَكَذَلِكَ يُمَكِّنُكَ مِمَّنْ يَخُونُكَ مِنْ بَعْدُ، كَمَا مَكَّنَكَ مِمَّنْ خَانَهُ مِنْ قَبْلُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَيْ: عَلِيمٌ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ، حَكِيمٌ فِي نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِظْهَارِهِمْ عَلَيْهِمْ.
وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَتَيْنِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ تَرْغِيبِ الْأَسْرَى فِي الْإِيمَانِ، وَإِنْذَارِهِمْ عَاقِبَةَ خِيَانَتِهِمْ إِذَا ثَبَتُوا عَلَى الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَعَادُوا إِلَى الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَفِيهِ بِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاسْتِمْرَارِ النَّصْرِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي كُلِّ قِتَالٍ يَقَعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، مَا دَامُوا قَوَّامِينَ بِأَسْبَابِ النَّصْرِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَدْ وَرَدَ مِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي مَعْنَى الْآيَتَيْنِ مَا يَحْسُنُ نَشْرُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيضَاحِ الْمَعْنَى، وَمَا كَانَ مِنْ سِيرَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْأَلَةِ فِدَاءِ الْأَسْرَى.
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَرْكِ فِدَاءِ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه وَكَانَ فِي أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالُوا: ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا الْعَبَّاسِ فَدَاءَهُ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «وَاللهِ لَا تَذَرُونَ مِنْهُ دِرْهَمًا» وَقَدْ عَنَوْا بِقَوْلِهِمُ: ابْنِ أُخْتِنَا الْعَبَّاسِ جَدَّتَهَ أُمَّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهِيَ أَنْصَارِيَّةٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، لَا أُمَّ الْعَبَّاسِ نَفْسِهِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَإِنَّمَا وَصَفُوهُ بِكَوْنِهِ ابْنَ أُخْتِهِمْ، وَلَمْ يَصِفُوهُ بِكَوْنِهِ عَمَّهُ صلى الله عليه وسلم لِئَلَّا يَكُونَ فِي هَذَا الْوَصْفِ، رَائِحَةُ مِنَّةٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَأْذَنْ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ فِي مُحَابَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمُّهُ بَلْ سَاوَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَسْرَى، بَلْ وَرَدَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِفِدَاءِ ابْنَيْ أَخَوَيْهِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَنَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ لِغِنَاهُ وَفَقْرِهِمَا، وَقِيلَ الْأَوَّلُ فَقَطْ، وَقِيلَ: وَحَلِيفُهُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَمَرَهُ بِذَلِكَ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ مُسْلِمًا وَلَكِنَّ الْقَوْمَ اسْتَكْرَهُونِي، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَقُولُ، إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَإِنَّ اللهَ يَجْزِيكَ وَلَكِنَّ ظَاهِرَ أَمْرِكَ أَنَّكَ كُنْتَ عَلَيْنَا؟».
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَ إِيرَادِ مَا ذُكِرَ: وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةُ أَنَّ فِدَاءَهُمْ كَانَ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً ذَهَبًا، وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ فِدَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَجَعَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ مِائَةَ أُوقِيَّةٍ، وَعَلَى عَقِيلٍ ثَمَانِينَ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: أَلِلْقَرَابَةِ صَنَعَتْ هَذَا؟ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ} إِلَخْ.. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: وَدِدْتُ لَوْ كُنْتُ أُخِذَ مِنِّي أَضْعَافَهَا لِقوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ}. اهـ.
أَيْ: قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَمَا أَعْطَاهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَعْضِ الْغَنَائِمِ كَمَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْإِصَابَةِ أَنَّ الْعَبَّاسَ حَضَرَ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ مَعَ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَشَهِدَ بَدْرًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ مُكْرَهًا، فَأُسِرَ فَافْتَدَى نَفْسَهُ وَافْتَدَى ابْنَ أَخِيهِ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَسْلَمَ وَكَتَمَ قَوْمَهُ ذَلِكَ، وَصَارَ يَكْتُبُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْأَخْبَارِ ثُمَّ هَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِقَلِيلٍ وَشَهِدَ الْفَتْحَ وَشَهِدَ يَوْمَ حُنَيْنٍ. اهـ.
وَفِي تَتِمَّةِ خَبَرِ عَائِشَةَ أَنَّ الْعَبَّاسَ اعْتَذَرَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَمَرَهُ بِالْفِدَاءِ لَهُ وَلِابْنِ أَخِيهِ وَلِحَلِيفِهِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بِأَنَّهُ لَا يَجِدُ، قَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم: «فَأَيْنَ الَّذِي دَفَنْتَ أَنْتَ وَأُمُّ الْفَضْلِ فَقُلْتَ لَهَا: إِنْ أُصِبْتُ فَإِنَّ هَذَا الْمَالَ لَبَنِيِّ» فَقَالَ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا عَلِمَهُ غَيْرِي وَغَيْرُهَا. إِلَخْ.
وَرَوَى الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ بَعَثَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قِلَادَةً لَهَا فِي فِدَاءِ زَوْجِهَا، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً وَقَالَ: «إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا» هَكَذَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَعَزَاهُ الْحَافِظُ فِي الْإِصَابَةِ إِلَى الْوَاقِدِيِّ بِسَنَدٍ لَهُ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ بِأَبْسَطَ مِمَّا هُنَا قَلِيلًا، وَفِيهِ أَنَّهُ كَلَّمَ النَّاسَ فَأَطْلَقُوهُ وَرَدَّ عَلَيْهَا الْقِلَادَةَ وَأَخَذَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ (زَوْجِهَا) أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهَا فَفَعَلَ. اهـ.
وَقَدْ أَسْلَمَ الْعَاصُ بَعْدَ ذَلِكَ وَرِوَايَةُ الْوَاقِدِيُّ ضَعِيفَةٌ، وَتَصْحِيحُ الْحَاكِمِ يُنْظَرُ فِيهِ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)}
أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وإن يريدوا خيانتك} إن كان قولهم كذبًا {فقد خانوا الله من قبل} فقد كفروا وقاتلوك فأمنك منهم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)}
يريد إنْ عادوا إلى قتالك بعدما مَنَنْتَ عليهم بالإطلاق وخانوا عَهْدَكَ، فالخيانة لهم دأب وطريقة، ثم إنَّا نُمَكِّنُكَ منهم ثانيًا كما أمْكَنَّاكَ من أسْرهم أولًا، وقيل:
إنْ عَادَتْ العَقْربُ عُدنا لها ** وكانت النَّعْلُ لها حاضرة

. اهـ.

.قال صاحب روح البيان:

وفي الآية: بيان قدرة الله تعالى وأن مريد الخلاص من يد قهره في الدنيا والآخرة لا يجد إليه سبيلًا إلا بالإيمان والإخلاص فهو القادر القوي الخالق وما سواه العاجز الضعيف المخلوق.
وفي الخبر أن النبي عليه السلام قال: «إن الله تعالى قال: قل للقوي لا يعجبنك قوتك، فإن أعجبتك قوتك ادفع الموت عن نفسك، وقل للعالم لا يعجبنك علمك فإن أعجبك فأخبرني متى أجلك وقل للغني لا يعجبنك غناك فإن أعجبك فأطعم خلقي غداء واحدًا».
وفي الآية: إشارة إلى النفوس المأسورة التي أسرت في الجهاد الأكبر عند استيلاء سلطان الذكر عليها والظفر بها إن اطمأنت إلى ذكر الله والعبودية والانقياد تحت أحكامه يؤتها الله نعيم الجنة ودرجاتها وهي خير من شهوات الدنيا ونعيمها وزينتها فإن الدنيا ونعيمها فانية والجنة ونعيمها باقية وخيانة النفس التجاوز عن حد الشريعة والطريقة.
يقال: إن متابعة سبعة أصناف أورثت سبعة أشياء:
الأول: إن متابعة النفس أورثت الندامة كما قال تعالى في قتل قابيل هابيل: {فَطَوَّعَتْ لَه نَفْسُه قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَه فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (المائدة: 30).
والثاني: إن متابعة الهوى أورثت البعد كما قال لبلعام {وَاتَّبَعَ هَوَاه فَمَثَلُه كَمَثَلِ الْكَلْبِ} (الأعراف: 176) يعني في البعد والخساسة.
والثالث: إن متابعة الشهوات أورثت الكفر كما قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (مريم: 59) يعني الكفر.
والرابع: أن متابعة فرعون أورثت الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة كما قال تعالى: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} (هود: 97) إلى قوله: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} (هود: 98).
والخامس: إن متابعة القادة الضالة أورثت الحسرة كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} (البقرة: 166)إلى قوله: {كَذَالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة: 167).
والسادس: إن محبة النبي عليه السلام أورثت المحبة كما قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}.
والسابع: إن متابعة الشيطان أورثت جهنم كما قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: 42 43). اهـ.